[warning headline="تنبيه!"]تعلم إدارة موقع موسوعة سكوول، أن كل شخص يعمل على نقل المحتوى بطريقة غير قانونية أي دون ذكر المصدر، او سرقة المحتوى بأي شكل من الأشكال، فإن ذلك يعرض المرتكبين الى تتبعات من قبل الإدارة.[/warning] [warning headline="تنبيه!"] تعلم موسوعة سكوول عن انهاء العمل بهذه النسخة من الموقع منذ 01 فيفري 2018، الرجاء التوجه الى النسخة الجديدة.[/warning]
  • التنوع والاختلاف عند ليفي ستروس (الجزء الثاني)




    التنوع والاختلاف عند ليفي ستروس (الجزء الثاني)




    يلاحظ  كلود ليفي شتراوس في كتيبه "العرق والتاريخ" الذي نشرته "اليونسكو" عام 1952 ضمن مجموعة من الدراسات عنوانها "المسألة العرقية أمام العلم المعاصر" أن في المجتمعات البشرية قوى تعمل باتجاهات متعارضة، بعضها يعمل في اتجاه الاختلاف وبعضها في اتجاه التقارب والتشابه، ويقارن ذلك بتغير اللغات، فثمة لغات من أصل واحد تتمايز كالروسية والفرنسية والإنجليزية، وأخرى من أصول مختلفة تطور ملامح مشتركة بسبب الجوار كالروسية والفنلندية –الأوغرية والتركية التي تقترب من بعضها في بعض الملامح الصوتية على الأقل. ويقول بعد ذكر هذه الملاحظة عن تطور اللغات :"عندما ندرس مثل هذه الواقعات- وثمة مجالات أخرى من الحضارة كالمؤسسات الاجتماعية والفن والدين، تقدم واقعات شبيهة بها- ننتهي إلى التساؤل عما إذا كانت المجتمعات البشرية لا تتحدد، نظراً لعلاقاتها المتبادلة بتنوع أمثل لا تستطيع تجاوزه، كما لا تستطيع بعد ذلك النزول تحته بدون خطر.. وهذا الحد الأمثل يتغير تبعاًًًًً لعدد المجتمعات وأهميتها العددية وبعدها الجغرافي ووسائل الاتصال (المادية والفكرية) التي تستخدمها"(1).

    ومشكل الاختلاف لا يقتصر على الثقافات المختلفة فهو موجود أيضاًً داخل كل مجتمع.

    وفي هذه النقطة أذكر القارئ بالاختلاف في مجتمعاتنا بين الأوساط المدنية والريفية والبدوية، وضمن المدن نفسها إلى آخره..وإن كان هذا الاختلاف بالتأكيد في حالة تغير فبعض الاختلافات يختفي وبعضها يظهر.

    ويقول شتراوس إن من الاختلافات ما ينشأ عن العزلة، ومنها ما ينشأ بالعكس عن القرب إذ تفعل في هذه الحالة اعتبارات كالرغبة في التميز والمحافظة على الذات، وعلى هذا فتنوع الثقافات ينتج عن العلاقات بين المجتمعات أكثر مما ينتج عن عزلتها.

    وتنوع الثقافات كما يقول قلما فهم على وجهه الصحيح بما هو ظاهرة طبيعية ناتجة عن علاقات مباشرة أو غير مباشرة بين المجتمعات، بل كان الناس يرون فيه تشوها في التكوين أو عاراً، وكان رد فعل البشر تجاه الأشكال الأخلاقية والدينية والاجتماعية والجمالية البعيدة عنهم ردود احتقار واشمئزاز "عادات متوحشين" "لا ينبغي السماح بذلك"، وظهر ذلك في وصف اليونان والرومان للثقافات التي تختلف عنهم بأنها "بربرية" ثم "متوحشة"، ويلاحظ ملاحظة طريفة ن هذا الموقف هو بالذات موقف معظم الشعوب التي تسمى "متوحشة"، إذ ليس عندها مفهوم عن الإنسانية يضم عروقاً وحضارات مختلفة فهي تقصر مفهوم "البشر" على قبائلها أو مجموعتها اللغوية، وتسمي نفسها "الناس" أو "الكاملين" وغيرها "أشرار" أو "مجرمون" أو "قرود"، بل قد تعد الغريب "شبحاً" أو "خيالاًً"، ويورد شتراوس واقعة تاريخية طريفة: في أرخبيل الأنتيل، بعد سنوات من اكتشاف أمريكا، كان الإسبان يرسلون لجان استقصاء للبحث عما إذا كان الأهالي يملكون أرواحاً، أما هؤلاء الأهالي فكانوا يحاولون تغطيس بعض الأسرى البيض في الماء ليتحققوا بواسطة مراقبة مطولة مما إذا كانت جثثهم عرضة للتفسخ!( ص470).

    ويختصر شتراوس استنتاجه بعبارة موجزة دالة: "الهمجي هو أولاًً الإنسان الذي يعتقد (بوجود) الهمجية" (ص470)(2).

    ويقول شتراوس أن الأديان والفلسفات الكبرى كافحت هذا الضلال، غير أن هذه المكافحة لا تكفي لترد الناس عن النزعة العرقية التي تنتج عن مجرد الملاحظة البسيطة لواقعة وجود أعراق بشرية مختلفة! وقد كان الحل الذي جاءت به النشوئية المزيفة هي عدم الاعتراف بالتنوع الثقافي مع التظاهر بالاعتراف به عبر نظرية تقول بأن حالات الثقافة المختلفة هي مراحل لتطور واحد منطلق من نقطة واحدة ومتوجه في اتجاه واحد، هذه النشوئية الاجتماعية التي تذكر بالنشوئية الداروينية هي أقدم منها عهداًً كما نجد في أمثلة باسكال وفيكو وكونت وكوندورسيه.

    ويضرب شتراوس أمثلة كثيرة على خطل النظرة التي تقول بمراحل تطور تقف أوروبا على قمتها ولا تشكل الثقافات الأخرى إلا درجات مرت بها أوروبا سابقاً، مثلاً ترافق تدجين الحيوانات في وروبا مع تطوير الزراعة بخلاف مجتمعات أمريكا القديمة، وهذه الأخيرة استعملت في طورها الزراعي أدوات حجرية على حين استعملت الأولى أدوات معدنية. لا توجد شعوب طفلة وأخرى مراهقة وثالثة ناضجة فلكل الشعوب نفس القدر من التاريخ وإن ظهر لنا أن بعضها "بلا تاريخ"لأننا نجهل هذا التاريخ.

    على أن شتراوس يعود لطرح فرضية تميز بين شعوب لها تاريخ تقدمي، اكتسابي يكدس الاكتشافات والابتكارات، وأخرى لها تاريخ ربما كان فعالاً كالأول ويستعمل المواهب نفسها، ولكنه يفتقر إلى الموهبة التأليفية التي هي وقف على الأول "فكل تجديد، بدلاً من أن يضاف إلى التجديدات السابقةوالمتجهة في الاتجاه نفسه، ينحل فيها في نوع من المد المتموج الذي لا يتوصل أبداًص إلى الابتعاد باستمرار عن الاتجاه البدئي"( ص478).

    بعد ذلك ينطلق شتراوس لمعالجة "فكرة التقدم" ملاحظاً أن مخططات العلماء التي كانت سائدة مطلع القرن العشرين (قبل خمسين سنة من كتيبه) السائرة على شكل سلسلة مرتبة منتظمة مستمرة: عصر الحجر المنحوت، عصر الحجر المصقول، عصور النحاس والبرونز والحديد لا تسير في خط واحد متصاعد فبعضها يترافق مع بعضها الآخر ولا يتخالفان زمانياً ويقول مستنتجاً "لا يرمي ذلك كله إلى إنكار واقع تقدم البشرية، ولكنه يدعونا إلى تصوره بمزيد من الاحتراس. يميل تطور المعارف الأثرية وما قبل التاريخية إلى عرض أشكال حضارية في المكان، كنا ميالين لتصورها متدرجة في الزمان. وهذا يعني أمرين: أولاً إن "التقدم" (إذا كان هذا اللفظ ما يزال ملائماً للدلالة على واقع يختلف جداً عن الواقع الذي كان يطبق عليه في بادئ الأمر) ليس محتماً ولا مستمراً، بل ينشأ على طفرات أو قفزات أو، كما يقول البيولوجيون تبدلات مفاجئة. وهذه الطفرات والقفزات لا تكمن في الابتعاد دائماً في الاتجاه ذاته، بل تترافق بتغييرات في الاتجاه(...) فالبشرية السائرة في طريق التقدم لا تشبه شخصاً يرتقي درجاً، مضيفاً بكل حركة من حركاته درجة جديدة إلى الدرجات التي صعدها، بل تذكر بالأحرى باللاعب الذي يتوزع حظه على عدة قطع من النرد، والذي يراها في كل مرة يلقيها، تتبعثر على البساط جالبة إليه حسابات مختلفة. فما نربحه على صعيد، نحن معرضون دائماً لخسارته على صعيد آخر، وإنما بين الحين والآخر فقط يكون التاريخ تراكمياً ، أعني أن الحسابات تضاف إلى بعضها بعضاً لتؤلف تاريخاً تراكمياً"( ص481).

    على التاريخ التراكمي يضرب شتراوس مثلاًً حضارة شعوب أمريكا القدماء الذين وصلوا على الأغلب إلى القارة قبل عشرين ألف عام بجماعات صغيرة استطاعت أن تطور معارف نظرية وتطبيقية لبيئتها فقد دجنوا أجناساً نباتية وحيوانية واكتشفوا كثيراً من السموم والمواد المخدرة وطوروا كثيراً من الصناعات كالنسيج والخزف وشغل المعادن الثمينة، ولهم تدين أوروبا بالبطاطا والمطاط والتبغ والكوكا والذرة والفول السوداني والبندورة والأناناس وغيرها، وعرف المايا الصفر أساس الرياضيات قبل الهنود ثم العرب بخمسمائة سنة، وأقام الإنكا نظاماً سياسياً اختلف فيه أهو اشتراكي أم استبدادي ولكنه "كان ينتمي إلى أحدث الصيغ ومتقدماً عدة قرون على الظاهرات الأوروبية المنتمية إلى النموذج ذاته" (ص483).

    وينتقل شتراوس بعد ذلك لمناقشة مسألة هامة جداًً هي الاختلاف بين "التاريخ الساكن" و "التاريخ التراكمي"، فإذا أقر الأوروبيون لأمريكا القديمة بامتياز التاريخ التراكمي لإسهاماتها التي اقتبسوا منها وتشبه إسهاماتهم، ماذا يكون موقفهم من حضارة تمسكت بتطوير بعض القيم الخاصة، التي لا يمكن لأي منها أن تثير اهتمام الملاحظ؟ أفلا يكون هذا الأخير ميالاً إلى نعت هذه الحضارة بالسكون؟ "قد نقصد هكذا بالثقافة التراكمية كل ثقافة تتطور في اتجاه شبيه بثقافتنا، أي الثقافة التي ينطوي تطورها على دلالة في نظرنا، في حين أن الثقافات الأخرى تبدو لنا ساكنة، لا لأنها كذلك بالضرورة، بل لأن خط تطورها لا يعني لنا شيئاً، ولا يمكن تقديره بعبارة نظام الإحالات التي نستخدمها"( ص483).

    ذلك ما يشبهه شتراوس بوجهة نظر المسنين الذين يرون في تاريخ شيخوختهم تاريخ سكون قياساً للتاريخ التراكمي أيام شبابهم، إذ كل أيامهم تفقد معناها فلا يحدث فيها شيء أو ما يحدث يتسم بسمات سلبية، على عكس أحفادهم الذين يعيشون الفترة نفسها بكامل الحماسة التي فقدوها هم، وكذلك خصوم نظام سياسي ما يعدونه خارج التاريخ ولا يعترفون له بتطور بخلاف أنصار النظام وخصوصاً حين يشاركون في سير عمل جهاز الحكم. "إن التاريخية أو على الأصح، وفرة الأحداث في ثقافة أو سيرورة ثقافية، تابعتان، لا لخصائص هذه الأحداث الذاتية، بل لوضعنا حيالها، ولعدد المصالح المرهونة بها وتنوع هذه المصالح". (ص484)

    ويلجأ شتراوس إلى التمثيل للاختلاف في النظرة بين ابن الثقافة من داخلها وابن ثقافة أخرى ينظر من الخارج بالاختلاف الذي قالت به النظرية النسبية بين رؤية راكب القطارللقطارات الأخرى بحسب سرعتها واتجاهها نحوه أو عكسه، "إن كل عضو من أعضاء الثقافة متضامن معها على نحو وثيق كتضامن هذا المسافر مع قطاره. ومنذ ولادتنا يرسخ المحيط في أذهاننا، بألف محاولة شعورية أو لاشعورية، منظومة معقدة من الإحالات، مؤلفة من أحكام قيمية ودوافع ومراكز اهتمام، بما في ذلك النظرة الانعكاسية التي تفرضها علينا التربية حول صيرورة معارفنا التاريخية، والتي بدونها تصبح هذه الحضارة غير معقولةأو تبدو متناقضة مع التصرفات الفعلية. ونحن ننتقل تماماً مع نظام الإحالات المشار إليها، وتتعذر ملاحظة واقعات الخارج الثقافية إلا من خلال هذه التشوهات التي تفرضها عليها هذه المنظومة، هذا إذا لم يبلغ بها الأمر إلى حد منعنا من ملاحظة أي شيء من هذه الواقعات الثقافية (ص485).

    وعلى العكس من العالم الفيزيائي الذي نظن فيه المتحرك معنا ساكناً ولا نراه متحركاً إلا إذا اختلف اتجاه حركته وسرعته عنا، فإننا في العالم الإنساني لا نكتشف الحركة إلا إذا كانت تسير في اتجاهنا نفسه وفي نفس سرعتنا، ويرى شتراوس أننا هنا يجب أن نهتم بمتغيري "الإعلام" و "الدلالة"، إذ أن الثقافات الأخرى حين لا تسيرها اهتماماتنا وعاييرنا تكون "كمية الإعلام" القابلة للانتقال إلينا محدودة وتشوش رؤيتنا لها، بل قد تمنعنا من رؤيتها كلياًً.

    وينتقل شتراوس إلى تطبيق هذا المبدأ على واقع الحضارات البشرية المعاصرة، فقد كرست الحضارة الغربية نفسها منذ بضعة قرون لوضع وسائل آلية متزايدة القوة تحت تصرف الإنسان، فلو اعتمدنا معيار كمية الطاقة المتاحة لكل فرد دليلاً على درجة تطور الحضارة لكان الغرب في رأس القائمة، أمريكا ثم أوروبا والسوفييت واليابان ثم  في المؤخرة المجتمعات المسماة "نامية" و "بدائية"التي تذوب في مجموعة غامضة، كون خط التطور المذكور لا يصلح لوصفها، رغم أنها تختلف فيما بينها اختلافات كبيرة، بل قد تتقابل فيما بينها وبحسب وجهة النظر المختارة ننتهي إلى تصنيفات مختلفة.

    أما إن أخذنا المعيار قدرة التغلب على البيئات الجغرافية الأكثر معاداة، فلا شك في انتصار الأسكيمو والبدو.

    وفي مجالات أخرى تفوقت الهند في إعداد منظومة فلسفية-دينية، والصين في نمط من الحياة، كلاهما خليق بأن يخفف من النتائج النفسانية لفقدان التوازن الديمغرافي، وقبل أربعة عشر قرناًص وضع الإسلام نظرية عن تضامن جميع أشكال الحياة البشرية: التقني والاقتصادي والاجتماعي والروحي لم يعثر الغرب عليها إلا مؤخراً جداً مع الماركسية والإثنولوجيا الحديثة، "ونحن نعلم المكانة السامية التي احتلها العرب بفضل هذه النظرية النبوية في حياة العصر الوسيط الفكرية" (ص487)، أما الغرب سيد الآلات فمعلوماته أولية جداً عن استخدام موارد آلة الجسد على حين يتقدم عليه الشرق والشرق الأقصى بآلاف السنين بهذا المجال، كما في مجال العلاقات بين المادي والمعنوي المرتبط به كما في يوغا الهند وتقنيات التنفس الصينية ورياضة الأحشاء لدى قدماء فاووري، وطورت الشعوب البولينيزية مبكراً فن الزراعة بلا أرض، وهي علمت العالم أيضاًص فن الملاحة وكشفت له عن نموذج من حياة اجتماعية وأخلاقية أكثر حرية وكرماً مما كان يخطر ببال. وفي إطار تنظيم الأسرة وإضفاء الانسجام على العلاقة بين الجماعة العائلية والجماعة الاجتماعية طور الأستراليون الأصليون على تخلفهم في الاقتصاد منظومات قواعد يحتاج المرء لفهمها إلى بعض أشكال الرياضيات الحديثة ويمكن عدهم رواد علم اجتماع الأسرة، وشكل غنى الإبداع الجمالي عند الميلانيزيين وجرأته وموهبتهم في دمج أشد نتاجات فاعلية العقل اللاشعورية غموضاً يالحياة الاجتماعية إحدى أرفع القمم. وأفريقيا بدأنا مؤخراً فقط نفهم أنها بوتقة ثقافية للعالم القديم، والحضارة المصرية كانت عملاً مشتركاً لآسيا وأفريقيا (3) وأنظمة أفريقيا القديمة السياسية والفلسفية الكبرى وصياغاتها القانونية تدل على ماض مبدع، ونستدل عليه أيضاًص بتقنيات العاج والبرونز التي كانت متفوقة على نظيرتها الغربية، هذا مع ملاحظة أن "هذه الإسهامات المجزأة ليست هي التي يجب أن تسترعي الانتباه كثيراً لأنها تجازف بإعطائنا فكرة زائفة من وجهين، عن حضارة عالمية مؤلفة من ثوب آرلكان. لقد أسهبنا في عرض الأسبقيات: الفينيقية للخط، والصينية للورق والبارود والبوصلة، والهندية للزجاج والفولاذ...وهذه العناصر أقل أهمية من طريقة كل جماعة في جمعها أو حفظها أو استبعادها. وما يؤلف أصالة كل هذه الثقافات يكمن بالأحرى في طريقتها المعتمدة في حل المشكلات وفي جعل القيم موضع تفكير"(ص490).

    في الفقرة اللاحقة ينتقل شتراوس إلى موضوع "تحديد مكان الحضارة الغربية"، فقد يعترض على محاججاته السابقة بأنها نظرية، إذ أن الحضارات المختلفة كلها تعترف واحدة تلو الأخرى بتفوق حضارة واحدة هي الغربية، فالعالم كله يقتبس منها بالتدريج تقنياتها ونمط حياتها وتسلياتها وحتى ألبستها. وما تأخذه "البلاد النامية" على البلاد "غير النامية" ليس إضفاء الصبغة الغربية عليها، بل التباطؤ في إعطائها الوسائل التي تساعدها على هذا الإضفاء!.

    ويقول شتراوس إن هنا النقطة الحساسة في المناقشة، فلعل الرغبة في الدفاع عن أصالة الثقافات البشرية لا يجدي شيئاً، وعلاوة على ذلك يصعب على الإثنولوجيإعطاء تقدير عادل لظاهرة إضفاء الكلية على الثقافة الغربية لأسباب: أولاًً: إن وجود حضارة عالمية ظاهرة فريدة على الأرجح لم يسبق لها مثيل أو إن كان سبق لها مثيل ففي "ما قبل تاريخ" لا نعرف عنه شيئاً تقريباً ثم هناك شك كبير يخيم على قوام الظاهرة موضع البحث، والواقع إن الحضارة الغربية تميل للانتشار في العالم منذ قرن ونصف (من تاريخ صدور الكتيب) إما كلياً أو ببعض عناصرها الأساسية كالتصنيع، ومحاولة الثقافات الأخرى للاحتفاظ بشيء من تراثها التقليدي تقتصر عادة على البنيات الفوقية، أي على الجوانب الأكثر هشاشة، التي يمكن افتراض اكتساحها بالتحولات الجارية، فهل ستنتهي الظاهرة بإضفاء طابع الحضارة الغربية على المعمورة إضفاء كاملاً بنسختين روسية أو أمريكية؟ (يقصد سوفييتية أو أمريكية، و  والآن نرى اختفاء النموذج السوفييتي، وانتصار النموذج الأمريكي، وقد كان هذا الانتصار النفسي قبل المادي موجوداً يراه اللبيب حتى قبل عقود من انهيار الاتحاد السوفييتي ككيان سياسي-أيديولوجي)، وهل ستظهر أشكال توفيقية "كما نلاحظ إمكانية ذلك بما يتعلق بالعالم الإسلامي والهند والصين؟"، أم هل تقارب حركة المد نهايتها وتبدأ بالانحسار قريباً "من حيث أن العالم الغربي يوشك على الرزوح، كالوحوش ما قبل التاريخية، تحت انتشار مادي يتنافى مع الآليات الداخلية التي تؤمن وجوده؟"(ص492).

    يبدأ شتراوس مناقشته لهذه النقطة بملاحظة أن هذا الانخراط في نمط الحياة الغربي كلياًً أو جزئياً لا يتم بالعفوية التي يظنها الغربيون بل هو نتاج إجبار أكثر مما هو نتاج اختيار"فقد أقامت الحضارة الغربية جنودها ووكالاتها التجارية ومزارعها ومبشريها في العالم بأسره، وتدخلت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في حياة الشعوب الملونة، وقلبت رأساً على عقب أسلوب حياة هذه الشعوب التقليدي، إما بفرض طريقة حياتها نفسها، وإما بإحداث شروط كانت السبب في انهيار الكادرات الموجودة بدون تعويضها بأي شيء آخر. ومن هنا ما كان على الشعوب الخاضعة أو المفككة إلا أن تقبل الحلول البديلة المعروضة عليها، أو أن تأمل، عند عدم استعدادها لذلك، في الاقتراب منها إلى حد يوفر لها القدرة على محاربتها في المجال ذاته فأمام غياب هذا التفاوت في موازين القوىلا تستسلم المجتمعات بمثل هذه السهولة، بل يقترب تصورها للعالم من تصور القبائل الفقيرة في شرقي البرازيل، التي كان لدى الإتنوغرافي كورت نيموينداجو المهارة في أن يجعلها تتبناه، والتي كان أفرادها، كلما عاد إليهم بعد إقامة في المراكز المدينية، ينتحبون شفقة عليه عند تصور الآلام التي كانوا يفترضون أنه عاناها بعيداً عن قريتهم"(ص493).

    غير أن هذا التحفظ لا يغير من المسألة إلا وجهها، فإن لم يكن الرضى مبرراً للتفوق الغربي، أفلا تكون طاقة الغرب الكبيرة التي أتاحت له انتزاع الرضى مبرراً للتفوق؟.

    ويجيب شنراوس بأن المسألة هنا لم تعد من ميدان الذاتية الاجتماعية مثل وقائع الالتحاق بنمط الحياة الغربي، بل غدت ظاهرة موضوعية يجب الاستعانة بأسباب موضوعية لتفسيرها.

    ويرى شتراوس أن ثمة قيمتين من أكثر القيم وضوحاً أي أقلها عرضة للنزاع تنادي بهما الحضارة الغربية: الاستمرار في تنمية كمية الطاقة المتاحة للفرد الواحد، وحماية الحياة البشرية وإطالتها، فإن شئنا الاختصار قلنا إن الثانية شرط للأولى، وعلى أن ثمة ظروفاً معدلة لهاتين القيمتين كالحروب الكبرى وتفاوت توزيع الطاقة بين الأفراد والطبقات.

    فإن افترضنا صحة ذلك وجدنا أن الحضارة الغربية لم تكن الوحيدة في السعي لتحقيق هاتين المهمتين، فالشعوب "المتوحشة" هي التي حققت في هذا المجال الإنجازات الأكثر حسماً في الثورة النيوتيتية: الزراعة وتربية الماشية وصناعة الفخار والنسيج.

    وفي الفقرة التالية يدحض شتراوس الفكرة الشائعة عن دور المصادفة في الإنجازات الحضارية الكبرى للشعوب القديمة، فاكتشاف الطبخ بالنار ليس ناتجاً عن المصادفة، وكذلك ليس بمدرد وجود صلصال قرب النار ينتج فخاراً مناسباً للاستعمال وكذلك من غير الصحيح أن استعمال الأدوات الحجرية كان أمراً سهلاً لا يتطلب خبرة تقنية عالية وأدوات على درجة من التعقيد كبيرة، ويقول "إن المجتمعات التي نسميها بدائية ليست أفقر من المجتمعات الأخرى بأمثال باستور وباليسي" (ص497).

    الثورة الصناعية الحديثة لا تقارن من حيث أهميتها الكبيرة إلا بالثورة التي حدثت خلال العصر الحجري الأخير، ويلاحظ شتراوس مرة أخرى أن الغرب أدرك وجود هاتين الثورتين انطلاقًاً من منظومته الإحالية ومن الممكن أن تكون حدثت ثورات تراكمية أخرى في أماكن وأزمنة أخرى لكن المنظومة المذكورة لا تسمح بقياسهما فلا يظهران للوعي الغربي أو يظهران بشكل كامل التشويه.

    وله ملاحظة ثانية هي أن مثال ثورة العصر الحجري الأخير وهي وحدها التي يتوصل الإنسان الغربي المعاصر إلى تصورها بصورة كافية يجب أن يلهمه التواضع تزري بفكرة الأسبقية لصالح عرق أو بلد، فكما انتقلت الثورة الصناعية من أوروبا الغربية إلى الولايات المتحدة ثم اليابان فالاتحاد السوفييتي، فكذلك انطلقت ثورة العصر الحجري الأخير في آن من حوض بحر إيجه ومصر والشرق الأدنى ووادي الهندوس والصين، ويظن أن العصر الحجري الجديد في أمريكا لم يتأخر كثيراً عن العالم القديم، ويستنتج أن الثورة الصناعية لو لم تكن ظهرت في أوروبا الغربية لظهرت ذات يوم في مكان آخر.وإذا امتدت إلى مجمل الكرة الأرضية فكل ثقافة ستدخل فيها مزيداًً من الإسهامات الخاصة.

    وقد تتطور البشرية في اتجاهات مختلفة وإن بدا اتجاه التطور في واحدة من الثقافات انكفاء أو ركوداًً لثقافة أخرى "إن البشرية لا تتطور في اتجاه وحيد، وإذا بدت على صعيد ما ساكنة أو حتى منكفئة فلا يعني ذلك أنها من وجهة نظر أخرى، لم تكن مقراً لتحولات كبيرة"(ص503).

    ويقارن ذلك بجمال النساء، فقد حل هيوم مشكلة وجود عدد قليل من النساء الجميلات، بأن هذا منطقي، فلو كانت الجميلات كثيرات لاختفى الجمال من حيث أنه بالتعريف ما تتمتع به الأقلية!(4 )

    وفي الفقرة الأخيرة عن "تعاون الثقافات" يقول شتراوس إن المنجزات الحضارية يزيد احتمال تحقيقها بزيادة التفاعل بين ثقافات مختلفة، ويوضح ذلك مستنداًً إلى التشبيه بلعبة الروليت حيث يزداد احتمال تحصيل مجموعة رابحة من الأرقام في حال تعاون عدة طاولات عنها في حالة لاعب منفرد، ويعيد الإنجاز الغربي الحديث إلى التقاء عدد كبير من التأثيرات: اليونانية والرومانية والجرمانية والأنجلوسكسونية والعربية والصينية. وبالمقارنة كانت ثقافات أمريكا قبل كولومبوس أيضاً متفاعلة فيما بينها، وكانت في مستواها الثقافي توازي بل تفوق في بعض النواحي الحضارة الأوروبية، لكنها بسبب تاريخها الأحدث أقل تنوعاً، وكان التحالف الثقافي فيها يقوم بين شركاء أقل تنوعاًً.

    وعلى هذا يميز التاريخ التراكمي المجموعات العملاقة، على حين يكون التاريخ الساكن، إن وجد حقاً، سمة المجتمعات المنعزلة.

    وفي رأي شتراوس أن من الخطأ التركيز على تعداد قائمة بمساهمات حضارة معينة والبحث عن الأسبقيات، وهذا لثلاثة أسباب: الأول إن فضل الابتكار ليس مؤكداً، والثاني إن الإسهامات الثقافية يمكن دائماً أن تتوزع بين زمرتين، فثمة سمات معزولة يسهل تقدير أهميتها مثل التبغ الذي جاء من أمريكا دون أن نذوب امتناناًً للحضارة التي اكتشفته! ولو لم تكتشف لما تزعزعت جذور الحضترة الغربية، ولو لم تكتشف لأمكن استبدالها بغيرها، وثمة بالمقابل إسهامات لها طابع المنظومة "أي التي تطابق طريقة كل مجتمع في التعبير عن مجمل الأماني البشرية وتحقيقها. ‘ن الأصالة أو الطبيعة الفريدة لهذه الأساليب الحديثة - أو النماذج كما يقول الأنجلو سكسونيون – لا يمكن نكرانها، ولكن كل أسلوب من هذه الأساليب يمثل خياراً قاصراً على أصحابه، ولا نتبين كيف تستطيع حضارة أن تأمل في الاستفادة من أسلوب حضارة أخرى، إلا إذا تنكرت لنفسها" (ص508).

    ليست المشكلة في معرفة إن كان مجتمع ما يستطيع الإفادة أو لا يستطيع من أسلوب حياة جيرانه، بل معرفة ما إذا كان يستطيع أن يصل إلى فهم هذه المجتمعات وإلى أي أحد أو إن كان يستطيع معرفتها، وهي مسألة لا تنطوي على جواب قاطع كما يقول شتراوس (أو بالأحرى تقول ترجمته العربية هذه ذات الأسلوب غير الواضح دائماً!).

    والسبب الثالث هو حقيقة أن المساهمة المفيدة في الحضارة العالمية تعني وجود هذه الحضارة. فما هذه الحضارة؟ "فعندما نتكلم عن حضارة عالمية، لا نعين فترة من التاريخ أو مجموعة من الناس: بل نذكر بمفهوم مجرد، ننسب إليه قيمة أخلاقية أو منطقية: أخلاقية، إذا كان المقصود هدفاً نقترحه على المجتمعات القائمة، ومنطقية إذا كنا ننوي أن نجمع، تحت لفظة واحدة، العناصر المشتركة بين مختلف الثقافات، والتي يسمح التحليل باستخلاصها. وفي الحالتين، لا ينبغي إخفاء فقر مفهوم الحضارة العالمية وطابعه التبسيطي وعدم كثافة محتواه الفكري والانفعالي"(ص509).

    إسهام الثقافات الحقيقي لا يتألف من قائمة من ابتكاراتها الخاصة، بل من الفرق التفاضلي الذي تقيمه بينها، يجب أن يقوم شعورنا بالامتنان تجاه الثقافات الأخرى على أساس قناعة بأنها ثقافات مختلفة بأشد الصور تنوعاً عن ثقافتنا، حتى لو لم ندرك طبيعة هذه الاختلافات أو أدركناها بصورة ناقصة جداً.

    ومن جهة أخرى فمفهوم الحضارة العالمية مفهوم حدي، أو هو تعبير مختصر عن سيرورة معقدة، "فلا وجود لحضارة عالمية إن كانت برهنتنا صحيحة، ولا إمكانية لوجودها"،  إذ الحضارة تنطوي على تعايش ثقافات متنوعة للغاية بل تقوم على هذا التعايش "والحضارة العالمية لا يمكن أن تكون شيئاً آخر سوى تحالف على الصعيد العالمي، تحالف ثقافات تحتفظ كل منها بأصالتها"(ص510).

    في الفقرة الأخيرة من كتيبه يبحث شتراوس في المفارقة بين كون  تحالف الثقافات شرطاً للتقدم الثقافي وبين أن هذا التحالف يكون أكثر خصباًً بقدر ما يقوم بين ثقافات أكثر تنوعاً .

    إن كان التقدم نتيجة للتشارك في الفرص التي تسنح لكل ثقافة في سياق تطورها التاريخي فسينتج عن ذلك التجانس بين هذه الثقافات واختفاء التنوع  ، فإن كان التنوع شرطاً للتقدم فهو سينفي نفسه بنفسه. ولكن هذا لا يحدث بسبب وجود ميل للتمايز يبدو أنه يراه سمة ملازمة للإنسان، وهو رأي يذكرنا بالقرآن "ولا يزالون مختلفين".

    ونظرته للموضوع ليست نظرة سطحية، فهو لا يدافع عن الأشكال الموجودة الموروثة من التاريخ بل يدافع عن واقع التنوع ذاتها "إن ضرورة المحافظة على تنوع الثقافات، في عالم مهدد بالرتابة والتشابه، لم تغب بالطبع عن بال المؤسسات الدولية. وينبغي عليها أيضاً أن تدرك أن تعهد التقاليد المحلية ومنح مهلة للأزمنة المنصرمة لا يكفيان لبلوغ هذا الهدف فواقعة التنوع هي التي يجب إنقاذها، وليس المحتوى التاريخي الذي أعطته لها العصور، التي لا يمكن أن يستمر أي منها إلى ما بعد انقضائه، ينبغي إذن الإصغاء إلى القمح الذي ينبت، وإيقاظ جميع الميول والاستعدادات للعيش المشترك، التي يدخرها التاريخ"(ص514).
    هوامش:
    *كلود ليفي- شتراوس، "الأنتروبولوجيا البنيوية"، الجزء الثاني، ترجمة د.مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي-دمشق 1983، ص466.
    * أضفت ما بين قوسين لتصبح الجملة أوضح، وفي الترجة "الهمجي هو أولاً ، الإنسان الذي يعتقد بالهمجية.
    *في الترجمة التي أعتمد عليها هنا خطأ (مطبعي على الأغلب) وصححته جعل الإثبات نفياً!.
    *هذا بالمناسبة غير صحيح ويسهل دحضه! لأن النساء القبيحات هن أيضاً أقلية في النساء، فلم كن قبيحات في نظر المجتمع؟ إن هذا لا يفسر نشوء العملية النفسية الاجتماعية التي تختار فيها سمات معينة وتوصف بالجمال وأخرى وتوصف بالقبح. وللفقير لله كاتب هذه السكور نظرية في هذا المجال يجدها القارئ في كتاب مشترك مع الأخ حسين شاويش في كتاب "حول الحب والاستلاب"، دار الكنوز الأدبية-بيروت1995.
  • مواضيع ذات صلة