[warning headline="تنبيه!"]تعلم إدارة موقع موسوعة سكوول، أن كل شخص يعمل على نقل المحتوى بطريقة غير قانونية أي دون ذكر المصدر، او سرقة المحتوى بأي شكل من الأشكال، فإن ذلك يعرض المرتكبين الى تتبعات من قبل الإدارة.[/warning] [warning headline="تنبيه!"] تعلم موسوعة سكوول عن انهاء العمل بهذه النسخة من الموقع منذ 01 فيفري 2018، الرجاء التوجه الى النسخة الجديدة.[/warning]
  • -الخصائص الفنية لحماسة المتنبي الجزء الثاني



     -الخصائص الفنية لحماسة المتنبي الجزء الثاني
    الحماسة في شعر المتنبي
    مقدمة
    يظل مصطلح “حماسة” رغم كثرة تداوله غائما مفتقراً للدقة والتحديد ضمن المنظومة المصطلحية النقدية العربية قديماًً وحديثاً. فالحماسة عند البعض معانٍ يمكن أن تندرج في مختلف الأغراض فتتلوّن في كل غرض بالتقاليد الموجهة للتلقي في كل عصر؛ وهي عند آخرين طابع يسم بعض النصوص بمياسم خاصة، وترتبط (الحماسة) عند فريق آخر في حدّها وتعريفها بوظيفتها في الشعر وعلاقتها بأفق انتظار المتلقي، فمتى قام الشعر على مبدأ التحميس اعتُبِر شعراً حماسيا سواء تجلى ذلك في المعاني أو في خصائصه الفنية كالإيقاع والصور..
    وذهب فريق آخر من النقاد إلى أن الحماسة غرض مستقل من أغراض الشعر، مثلها في ذلك مثل المدح والرثاء والفخر…الخ. وقد اعتمدوا في ذلك، بشكل خاص، على طريقة التصنيف التي اختارها أبو تمام لكتابه “ديوان الحماسة”، الذي جمع فيه مختارات شعرية لشعراء جاهليين ومخضرمين في مختلف الأغراض. وقد قسّم أبو تمام “ديوان الحماسة” إلى أبواب رتّبها بحسب المعاني الشعرية على النحو التالي:
    1. باب الحماسة
    2. باب المراثي
    3. باب الأدب
    4. باب الهجاء
    5. باب الأضياف
    6. باب المدح
    7. باب الصفات
    8. باب السَّير والنعاس
    9. باب المُلح
    10. باب مذمة النساء
    ولأن الباب الأول في هذه المختارات هو باب الحماسة، فقد سمي الكتاب بديوان الحماسة من باب تسمية الكل (الكتاب) بالجزء (باب). واستناداً إلى هذا التقسيم اعتبر بعض النقاد أن أبا تمام اعتبر الحماسة غرضاً مستقلاً، وكان ذلك السند النظري الأبرز الذي اعتبروا على أساسه الحماسة غرضاً مستقلاً. لكن نظرة في عناوين أبواب ديوان الحماسة، تظهر أن هذه العناوين لا تعبّر عن أغراض الشعر ـ كما نفهم اليوم الغرض الشعري ـ وإنما هي معان شعرية بالمعنى الواسع للفظة “معنى”، ذلك أنه من الصعب أن نعتبر “السير والنعاس” أو “مذمة النساء” غرضاً من أغراض الشعر كما نستعمله اليوم باعتباره مصطلحا نقديا محددا.
    ومن جهة ثانية فإن الحماسة في ديوان أبي الطيب المتنبي لا تستقل بقصائد خاصة وإنما هي مبثوثة في مختلف الأغراض وإن تفاوتت نسب حضورها من غرض إلى آخر، الأمر الذي يجعل مفهوم الحماسة مفهوما يخترق الأغراض ويتجاوزها ولا ينضبط لمقولة الغرض وشروطه.
    بهذا المعنى فالحماسة ليست غرضاً وإنما هي أقرب إلى أن تكون طابعا يسم بعض النصوص بمياسم خاصة، وسمات يمكن أن تحضر في الشعر لتجعل منه شعراً حماسيا بغض النظر عن الغرض الذي يندرج ضمنه هذا الشعر.




    للمزيد من شروح النصوص والملخصات الخاصة بمحور الحماسة اضغط هنا

    الحماسة عند المتنبي:عرف الشعر العربي الحماسة منذ الجاهلية، واقترنت في الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام بالفخر القبلي خاصة، وقد تحددت هذه الحماسة ضمن جملة من المعاني أهمها: الشجاعة والبطولة الحربية، ووصف الجيوش والسلاح، وتصوير المعارك ومشاهد القتال.
    هذه المعاني الحماسية مثلت أحد المصادر المهمة التي اعتمدها شعراء الحماسة في العصور اللاحقة منذ أبي تمام وصولا إلى المتنبي وابن هانئ.
    فكيف تعامل أبو الطيب مع هذا التراث الحماسي، وهل اكتفى بترديده أم تجاوزه وأضاف إليه؟
    قلنا إن شعر الحماسة عند أبي الطيب يتخلل مختلف الأغراض وخاصة منها المدح والرثاء والفخر؛ بمعنى أن الغرض يظل القوة الموجِّهة للقول وإن قامت بعض المدحيات مثلاً على الحماسة في مجملها. لكن هذه الملاحظة لا تنفي وجود خصائص مشتركة لشعر الحماسة عند المتنبي وإن اختلفت الأغراض والسياقات الشعرية إنشاء وتقبلاًَ. وربما كانت أبرز هذه الخصائص المشتركة ارتباط شعر الحماسة عند أبي الطيب بمؤثرات ذاتية تتعلق بتضخم الذات والاعتداد المبالغ فيه بالنفس، وبمؤثرات موضوعية ترتبط بعصر المتنبي وخصوصية المرحلة التاريخية التي عاش فيها.
    المؤثرات الذاتية:لا يمكن في الحقيقة أن ننظر في حماسيات المتنبي بمعزل عن ذات أبي الطيب المتضخمة والمتعالية، في إيمانها بالقوة وبالفعل سبيلاً لتحقيق الأهداف. وهو ما انعكس في شعره تغنياً بالقوة والبطولة والشجاعة مُرَدِّداً في ذلك أغلب معاني الحماسة الجاهلية التي يختصرها مفهوم الفتوة، ولكن مع تحويل/ تحوير مهم ينتقل فيه مركز الثقل من الجماعة (القبيلة) إلى الفرد، وهو أمر يبدو جلياً في الفخر كما في بقية الأغراض. فعندما يقول أبو الطيب مفتخراً:
    الخيل والليل والبيداء تعرفني……… والسيف والرمح والقرطاس والقلم
    إنما يجعل من الضمير المتصل “ني” قطب البيت ومركزه، إليه تنشد معاني البطولة وحوله يدور العالم بأسره. وهو ضمير لا يُعبِّر عن ذاتٍ جمعيّة بقدر ما يعبِّر عن ذات متفرِّدة تجعل من تأكيد تفردّها فعل وجود. ذلك أن تحقيق الذات مرتبط بمدى نجاحها في إعلان تمايزها وبالتالي تميّزها، من ذلك قوله:
    رِدِي حياض الردى يا نفس واتَّرِكي ……… حياض خوف الردى للشاء والنَّعَمِ
    فكل هذه المقابلات بين: يا نفس ≠ الشاء والنعم
    …………………. حياض الردى ≠ حياض خوف الردى
    ………………….. رِدِي ≠ اتّركي
    تؤكد هذه الرغبة في الفرادة/التفرد، وهي معنى مهم من معاني الحماسة عند المتنبي.
    هذا الإيمان بالإنسان الفرد يتجلى أيضا في المدح والرثاء. فصورة الممدوح أو المرثي تظل في شعر المتنبي ذاتاً فرديةً بامتياز، ومهما تعلق الأمر بالكثرة والعدد كما هو الشأن في وصف الحرب وتحرك الجيوش وهول المعارك.. فإن هذه الكثرة تُختزَل في شخص الممدوح أو المرثي. فهو الذي يحقق النصر وعليه يتوقف سير المعركة بفضل شجاعته وصبره على المكاره وصواب رأيه وحسن تخطيطه.. يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
    يُكلِّف سيف الدولة الجيشَ همّـهُ……… وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم ……..
    ويطلبُ عند الناسِ ما عند نفسـه ……..وذلـك مـا لا تدّعيـه الضراغـم
    إن العلامة الأولى على تأكيد معنى الفردية في هذين البيتين هي التسمية (سيف الدولة)، ففي التسمية تحديد وتخصيص، وانطلاقاً من هذا التخصيص تنشأ في البيتين جملة من المقابلات التي تؤكد تميّز الممدوح وتُعمِّقُ فرديته وفرادته. إذ نجد مقابلة بين:
    همّـه (همته) ≠ الجيوش الخضارم
    نفسـه ≠ الناس
    وهي مقابلة تقوم على ثنائية ضدية: مفرد/جمع، وتتعمّق من خلال الأفعال المنسوبة إلى الممدوح: “يكلّف، يطلب” في مقابل “عجزت، ما لا تدعيه” لتتحول المقابلة من ثنائية: مفرد/جمع إلى ثنائية: قدرة/عجز. فذات الممدوح تقوم رديفاً للقوة والقدرة والرغبة في الفعل، في حين تنهض الجماعة صورةً للضعف والعجز والتخاذل.
    بهذا المعنى تبدو الحماسة عند أبي الطيب معقودة بالذات المفردة ومرتبطة بفلسفة المتنبي ونظرته للعالم في إيمانه بأن التاريخ يصنعه أفراد متميزون وإن عاندهم الحظ أحياناً كما حدث مع أبي الطيب نفسه.
    المؤثرات الموضوعية أو الخارجية:مثلما تلوّنت الحماسة عند المتنبي بقوة حضور الذات في شعره وتحوّلها إلى قوة موجّهة للقول، فإن طبيعة المرحلة التاريخية وخصوصية القرن الرابع للهجرة باعتباره القرن الذي شهد بداية التراجع الحضاري للدولة العربية الإسلامية، قد ساهم في تلوين شعر أبي الطيب الحماسي وصبغه بطابع خاص. فقد استشعر المتنبي الأخطار التي كانت تَحيقُ بأمته والتي كان أكثرها جلاء تهديد الروم للأقاليم الشمالية.
    ولعل مواكبة المتنبي لهذا الصراع خلال إقامته عند سيف الدولة هو ما طبع شعره الحماسي بطابع ديني واضح تحوّل فيه صراع سيف الدولة مع الروم إلى صراع بين الكفر والإيمان، يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
    ولستَ مليكاً هازماً لنظيره ولكنك التوحيد للشرك هازم
    ولئن كان المتنبي في تأكيده على البعد الديني في الصراع يُعتبَرُ امتداداً لما كان بدأه أبو تمام، فإن أبا الطيب قد وسّع هذا المعنى وربطه بالبعد “العروبي”، فكان ذلك من أهم المعاني التي أضافها المتنبي لمعاني الحماسة المعروفة. بل إن هذا المعنى تحوّل في الكثير من مدحيات المتنبي ومرثياته، إلى الإطار الذي أصبح ينتظم بقية المعاني من إبراز للشجاعة وتصوير للحروب ووصف للجيوش…الخ.
    بهذا المعنى فإن الدفاع عن الأوطان في وجه العدو الخارجي والدفاع عن العصبية العربية (بمعناها الحضاري الثقافي وليس بمعناها القبلي أو العرقي) في وجه نفوذ بقية القوميات داخل الدولة الإسلامية، مثّل أحد أهم معاني الحماسة في شعر المتنبي.
    من السمات المهمة أيضاً لعصر المتنبي، والتي أثرت في شعره الحماسي، يمكن أن نشير إلى التحولات الاجتماعية التي شهدها مجتمع القرن الرابع، والتي جعلت من هذا العصر عصر التناقضات وانقلاب القيم؛ وهو ما يفسِّر من بعض الوجوه علاقة المتنبي المتوترة بواقعه، وانتشار مفاهيم الرفض والتمرد والغربة في شعره، فكان أقرب إلى “البطل الذي يدافع عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور” بعبارة لوكاتش.
    هذا الرفض للواقع انعكس في شعره الحماسي تغنياً بالقيم الأصيلة، قيم الشجاعة والبطولة الحربية والذبّ عن الحرمات من جهة، وانعكس من جهة أخرى على صورة الممدوح والمرثي في شعره، إذ تحول الممدوح/ المرثي إلى رمز لتلك القيم. ففي قصائد كثيرة يتحول المدح أو الرثاء إلى تغنٍّ بمثال منشود وبقيم يكون الممدوح/المرثي تجسيداً حيًّا لها. وهو ما يخرج بالمدح (أو الرثاء) من كونه مدحاً لشخص ليكون مدحاً لقيم، فيحرر الشعر بذلك من الظرفية وضغط المناسبة ليفتحه على المطلق ويحوّله إلى شعر حماسي يتجاوز الظرفي العارض ليكون تغنياً بقيم خالدة يفعل فعله في المتلقي بمعزل عن سياقات القول.
    فصورة سيف الدولة في شعر المتنبي هي الصورة التي أرادها له المتنبي، إنها صورة المنشود الذي حاول المتنبي تحقيقه في الواقع، وحين فشل حاول خلقه في اللغة ومن خلال الشعر.
    الوجه الآخر لتحويل المتنبي الممدوح إلى قيمة يتجلى بشكل خاص في الحِكم التي يعج بها شعر أبي الطيب، من ذلك قوله يمدح سيف الدولة في مطلع المدحية:
    على قدر أهل العزم تأتي العزائم ……… وتأتي على قدر الكرام المكـارم …….
    وتعظم في عين الصغير صغارها ……. وتصغر في عين العظيم العظائم
    فهذا التغني بالعزم وبفعل الإنسان في الوجود مرتبط بفعل سيف الدولة، ولكنه يجعل من فعل الممدوح نموذجاً لهذا المعنى العام. وبذلك تكون علاقة الحكمة ـ وهي مطلع القصيدة ـ ببقية النص علاقة إجمال بتفصيل، وكأن فعل الممدوح ما هو إلا تنزيل لهذه القيم في الواقع، إنه نموذج حي لهذه القيم.
    وفي أحيان أخرى ترِدُ الحكمة في نهاية النص فتكون في شكل استنتاج وانتقال من الخاص إلى العام، كما في قوله يمدح سيف الدولة ويواسيه بعد هزيمته أمام الروم:
    إن السلاح جميعُ الناس تحمِلُهُ ……….وليس كلُّ ذواتِ المخلبِ السَّبُعُ
    فالبيت ـ وهو خاتمة القصيدة ـ يقوم على مقارنة خفية بين شجاعة سيف الدولة وجبن أعدائه رغم أنهم المنتصرون، ولكنه النصر الذي يحوّله الشعر إلى هزيمة ما دام الصراع الحقيقي صراعاً بين الشجاعة (التي يمثلها سيف الدولة) وبين الجبن (أعداؤه)، والشجاعة منتصرة أبداً أياً كانت نتيجة المعركة.
    يمكن القول من خلال ما تقدم أن من سمات شعر الحماسة عند المتنبي، تحويل المدح والرثاء إلى مدح لقيم يمثل الممدوح تجسيدها الحي، وأن صورة الممدوح تبدو أحياناً كثيرة رسماً لمثال منشود حَلُم به المتنبي وعمِل على تحقيقه في الشعر حين عجز عن تحقيقه في الواقع.
    الواقع في حماسيات المتنبي:إن نظرة سريعة في شعر أبي الطيب الحماسي تؤكد علاقته بوقائع التاريخ، ذلك أن حضور الواقع في النص غالباً ما يكون مولِّداً للحماسة في مدحيات المتنبي خاصة، إذ كثيراً ما كان المدح مرتبطاً بذكر بطولات الممدوح الحربية، أو كان الباعث على المدح انتصار الممدوح في إحدى معاركه، وبذلك يصبح وصف الحرب وذكر الشجاعة معنى أساسياً من معاني المدح.
    لكن حضور الواقع/التاريخ في حماسيات المتنبي ليس هو الذي يمنح هذا الشعر بعده الحماسي، بل على العكس من ذلك، كلما حاول الشاعر أسْطَرَةَ التاريخ من خلال تجميله وتحويله إلى سلسلة من الانتصارات بغض النظر عما جرى فعلاً في الواقع، كان النفس الحماسي في ذلك الشعر أبرز. وبذلك يمكن القول إن شعر المتنبي الحماسي ليس وصف حروب بقدر ما هو «حروب وصف»[1] على حد عبارة مبروك المناعي، بمعنى أن ما يفعله المتنبي إبداع حربي حماسي بالوصف وليس مجرد وصف للحرب، وأن رهان الشاعر الأول هو تجميل الواقع وتجميل صورة الممدوح والقدرة على تحويل التاريخ إلى بطولة أو إلى تاريخ بطولة.
    وقائع التاريخ بهذا المعنى لا تمثل إلا منطلقاً لشعر الحماسة، أما الذي يجعل هذا الشعر شعراً حماسياً فهو تحديداً مفارقته للواقع ولقوانينه. فحين يصور المتنبي جيش سيف الدولة، يصف الخيل قائلاً:
    فكأن أرْجُلَها بِتُربَةِ مَنْبِجٍ …….يطرحن أيديَها بحصن الران
    يحوّل الوصف هذه الجياد إلى كائنات أسطورية تتحرر من بُعدَيْ المكان والزمان ومن قوانين الواقع إذ تجمع في عدْوِها بين مكانين (منبج وحصن الران) بينهما على ما يروي شُرّاح شعر المتنبي مَسِيرُ خمسة أيام.
    حضور التاريخ في شعر أبي الطيب الحماسي إذن لا يُحوّل هذا الشعر إلى تأريخ، بل إن هذا التاريخ وهو يحضر في الشعر يتخذ وجوداً أدبياً، فلا يكون حضوره غايةً ولا الهدفُ منه التأريخَ والتسجيلَ، بقدر ما يكون حضور التاريخ ذريعة لغاية أبعد هي التأثير في المتلقي من خلال تحويل الوقائع إلى مجال لذكر البطولات والتغني بالانتصارات.
    هذا الارتباط بالواقع ومفارقته في آن، يُقرِّب شعر المتنبي الحماسي من الملحمة ويمنحه الكثير من السمات الملحمية.
    بين شعر الحماسة والملحمة:
    إذا كانت الملحمة في أبسط تعريفاتها هي القصة الشعرية التي تروي ـ في صياغة أدبية وخيال شعري ـ أعمالاً جبارة يقوم بها بطل فذ. فإن شعر أبي الطيب الحماسي لا يختلف كثيراً عن هذا التحديد، إذ أن الكثير من مدحياته في سيف الدولة خاصةً، تقوم على بعد قصصي واضح يجعل من القصيدة ـ كما يقول مبروك المناعي ـ «”شريطاً” عسكرياً مفصلاً عن حجم الجيش العربي ونظام تنقلاته، واختراقه للحواجز الطبيعية من جبال وأودية، وهجوماته السريعة الماحقة على جيش العدو، ومظاهر الإنجاز الحربي من حصار وطِرَادٍ ومواجهة..»[2].
    وإذا ربطنا هذا السرد والوصف بوظيفته في النص وهي الإعلاء من شأن الممدوح وإظهار شجاعته وحسن قيادته، أصبحت القصيدة سرداً لبطولات الممدوح في نَفَس حماسي يجعل هذا الشعر أقرب إلى الملحمة ولكن دون أن يماهيها لأن هذا البعد القصصي يظل مندرجاً ضمن الغرض الذي يؤطر القصيدة، وتظل وظيفته معقودة بخدمة الغرض الأساسي في النص، وهي تفخيم صورة الممدوح في المدح مثلاً.
    في شعر المتنبي الحماسي إذن بعض ملامح الملحمة، ولكن ذلك لا يحوِّل هذا الشعر إلى ملحمة، إذ يظل شعر الحماسة مرتبطاً في الغالب بحادثة أو واقعة محددة بينما تهتم الملحمة بمسيرة البطل أو القبيلة، وهي مسيرة قد تستغرق سنين عديدة بل أجيالاً متوالية، وهو ما يمنح الملحمة امتدادا على مستوى الحيز النصي لا نجده في القصيدة
    الحماسية التي تظل مهما طالت قصيرة مقارنة بالملحمة.
    الخصائص الفنية لحماسة المتنبي:
    1. الإيقـاع:نميّز في استعمال الإيقاع بينه وبين الوزن (البحر والقافية)، إذ الوزن إحدى تجليات الإيقاع، ولكن إيقاعات الأوزان لا تمثل كل تجليات الإيقاع في الكلام. ذلك أن:
    ـ الوزن نظام إيقاعي ثابت مقنن، أما الإيقاع فنزوع إلى الانتظام والتنظيم دون أن يكون نظاماً ثابتاً جامداً.
    ـ الوزن نظام مجرد سابق للنص، أما الإيقاع فمرتبط بالكلام ناشئ عن النص ومتكيف به.
    ـ الوزن عام ومشترك، أو هو إطاري خارجي، أما الإيقاع ففردي موضعي.
    بهذا المعنى فإن الإيقاع ظاهرة حيوية في الكلام ترفض التقنين، وهو ما يعني أن ما يمكن بحثه أو محاصرته من ظاهرة الإيقاع هو آليات تجليها في الكلام. ولعل ما يمكن تأكيده في ما يتعلق بالإيقاع هو ارتباطه الوثيق بمفهوم الترديد أو التكرار ولكن دون أن يماهيه، فالإيقاع تكرار في منطلقه ولكنه نفي للتكرار في مآله، بما هو كسر للرتابة كي لا يسقط في التشبع ويفقد كل قيمة جمالية. ومن جهة أخرى فالإيقاع ليس مجرد تكرار صوتي بل هو تكرار له بالدلالة أكثر من صلة. إنه كما يقول المسعدي «هندسة وبناء» بمعنى أنه يشمل مختلف مظاهر الانتظام والتنظيم في النص، وهو انتظام يكشف عن تنظيم مخصوص للمعنى في النص.
    ويمكن أن نتوقف في شعر أبي الطيب الحماسي عند بعض مظاهر الإيقاع منها:
    تكرار الأصوات: يقول المتنبي مصوراً بناء سيف الدولة لقلعة الحدث:
    بنـاهـا فأعلـى والقنـا تقرع القنـا..ز…… وموج المنـايـا حولهـا متـلاطم
    يقوم هذا البيت على إيقاع قوي ومميز، وهو ناتج أساسا عن خصائص الحروف والأصوات المستعلمة وعن كيفية توزيعها على مساحة البيت، إذ نجد:
    ـ تكرار حروف القاف والراء والعين، وهي أصوات جهورية تحيل إلى محاكاة صوت المعركة وقعقعة السلاح. فكأنك وأنت تسمع هذا البيت تستمع إلى صوت المعركة وهو ما يشحن البيت بإيقاع مميز يعانق الدلالة لتأكيد النفَس الحماسي في القصيدة.
    ـ انتشار المقاطع الطويلة المنفتحة التي تعبّر عن معنى الإعلاء في البناء. فإذا كان البيت يؤكد جمع سيف الدولة في فعله بين البناء والحرب، فإن الحروف تعبّر عن هذا المعنى من خلال خصائصها الصوتية (القوة والشدة) ومن خلال توزيعها وخصائصها الكمية (انتشار المقاطع الطويلة).
    الجناس والتكرار اللفظي: يقول المتنبي مفتخراً:
    لقد تصبّرتُ حتى لات مصطبر……. فالآن أُقحِـمُ حتى لات مُقتَحَـم
    يقوم البيت على ترديد لفظي : تصبرت ـ مصطبر
    ………………………….أقحم ـ مقتحم
    وهو ترديد يُظهر التقابل الدلالي بين صدر البيت وعجزه، أي بين الماضي (لقد تصبّرت) والحاضر الدال على المستقبل (فالآن). فمعنى الصبر الذي عبّر عنه الفعل المزيد (تصبّر) والذي يحمل معنى الكثرة المرتبطة بالمشقة والشدة، هو الذي استدعى تكرار نفس المادة (ص.ب.ر) في (مصطبر) الذي ورد ضمن مفعول يفيد انتهاء الغاية في الزمان (حتى…) فكان ذلك إيذاناً بالتحول الذي عبّر عنه العجز. وكان الانتقال إلى الفعل (أقحم) مرتبطاً بهذا الإصرار الذي لا مجال فيه للتردد ليكون الاقتحام والتقدم على قدر الصبر والتصبّر. إضافة إلى أن التكرار يحوّل إصرار الذات على الفعل إلى غنائية تمجّد القوة وتتغنى بالفعل.
    بهذا المعنى ليس ترديد الأصوات أو الألفاظ مجرد لعب لفظي وإنما هو مظهر من مظاهر تنظيم المعنى وإخراجه في النص.
    الموازنة التركيبية: يقول المتنبي في مطلع إحدى مدحياته في سيف الدولة:
    على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
    وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
    تلعب الموازنة التركيبية بين صدر وعجز كل بيت دوراً أساسياً في تأكيد صيغة الإطلاق في الحكمة، كما ينهض التقديم والتأخير (تأخير الفاعل: العزائم، المكارم) بوظيفة تأكيد المعنى وإظهار دور الإنسان وفعله في تحديد طبيعة النتيجة. فالعزائم (التي احتلت وظيفة الفاعل نحويا) إنما هي ـ دلاليا ـ نتيجة فعل الإنسان ومقدار العزم الذي يبذله في سبيلها. ومن جهة أخرى فإن الموازنة التركيبية تقوي الإيقاع وتساهم في خلق النفس الحماسي في النص.
    الترصيع: يقول المتنبي:
    ونحن في جَذَل والرومُ في وَجَلٍ والبرُّ في شُغُل والبحر في خَجَل
    يقوم البيت على قافية داخلية تمنح الإيقاع فيه طابعاً مميزاً وتحوِّله إلى تغنٍّ بالنصر في نفس حماسي ظاهر. وهو أمر تؤكده ظواهر إيقاعية أخرى في البيت مثل:
    ـ التناسب بين الألفاظ وتوزيع التفعيلات، وهو ما يسميه الهادي الطرابلسي بظاهرة الطفو، أي أن تطفو التفعيلة على سطح البيت:
    ونحن في / جذل / والروم في / وجل والبر في / شغل / والبحر في / وجل
    مُتَفْعِلـن / فَعِلن / مستفعلـن / فَعِلن مستفعلـن / فَعِلن / مستفعلـن / فَعلن
    ـ المقابلة بين: نحن ≠ الروم
    …………..جذل ≠ وجل
    …………..البر ≠ البحر
    ـ الجناس في : جذل ـ وجل ـ خجل، وهي إضافة إلى ذلك على نفس البنية الصرفية: فَعَلٌ.
    ـ الموازنة التركيبية بين: نحن في جذل
    …………………….الروم في وجل
    …………………….البر في شغل
    …………………….البحر في خجل
    يمكن القول إذن أن المتنبي يزرع إيقاعاته الخاصة ضمن إيقاعات الوزن فتعضدها وتقويها، وتُخبِر في الآن نفسه عن حضور المتنبي ذاتاً مبدعةً تروم الفرادة والتميز. كل ذلك في علاقة واضحة بدلالة البيت القائم على مقارنة بين “نحن” و”الروم” في نفس حماسي واضح يتغنى بالنصر ولا يخفي تشفيه في الأعداء.
    الإيقاع بهذا المعنى حركة كيانية مرتبطة بالمبدع بقدر ارتباطها بالمتلقي، إذ الإيقاع ليس إلا إيقاعاً في الكلام يُحضر الذات في الخطاب، وإيقاعاً بالمتلقي يخلق بينه وبين النص ألفة تكون مدخلاً للتأثير فيه.
    2. الصورة الشعرية:مثلما يكون الإيقاع علامة على حضور الذات في الخطاب، فإن الصورة أيضاً علامة على حضور الذات في العالم وفعلها في الوجود. فالصورة إعادة تشكيل للعالم وخلق جديد له بالكلمات، من خلال العلاقات الجديدة التي تُوجِدُها الصورة بين الموجودات. الصورة الشعرية إذن ليست مجرد أسلوب محايد يستخدمه مستعمل اللغة للتعبير والوصف، إنها موقف ورؤية. ذلك أن الصورة تشبيها كانت أم استعارة أم كناية أم مجازاً… ليست إلا عدولاً وانزياحاً عن الاستعمال المأنوس للغة، فغاية التشبيه مثلاً هي التقريب بين المتباعدات، ولكن من دون هدم ما بينها من الحدود، ذلك أن التشبيه يحافظ على استقلال طرفيه وتمايزهما مهما قرّب بينهما. وقد اعتبر البلاغيون أن الأصل في التشبيه هو تشبيه المجرد بالمحسوس انسجاماً مع مبدأ إخراج الأغمض إلى الأوضح.
    لكن نظرة في شعر المتنبي الحماسي تُظهِر استعمال المتنبي للتشبيه استعمالاً مخصوصاً ينأى به عن وظيفته الأساسية (تقريب الصورة)، ففي قصيدة “تمر بك الأبطال” مثلاً تنبني الصورة على التشبيه، وهي تشبيهات بينها من العلاقات والتشابه ما يشي بأنها اختبار فني مقصود موظف لخدمة غاية أبعد. يقول المتنبي في هذه القصيدة:
    وقفتَ وما في الموت شك لواقف…….. كأنك في جفن الردى وهو نائم
    تقوم الصورة على تشبيه وقوف سيف الدولة في المعركة بوقوفه في جفن الردى، وهو تشبيه تمثيل (تشبيه صورة بصورة) قام على تشبيه محسوس (وقوف سيف الدولة في المعركة) بمجرد (وقوفه في جفن الردى) الأمر الذي يجعله يخرج عن الضوابط التي حددها البلاغيون للتشبيه، إضافة إلى أن المشبه به قائم على استعارة (الردى له جفن/نائم).
    فهذا التشبيه تشبيه مركب ينزع إلى الغموض وليس إلى الوضوح، بمعنى أنه لا ينهض بوظيفة تقريب الصورة، بل إن غايته هي الإيغال في الخيال والمبالغة. فالصورة لا تقوم على تقريب المعنى وإنما تنهض بوظيفة تأثيرية غايتها تأكيد عظمة الممدوح من خلال الغموض والمبالغة. ويمكن قول الأمر نفسه في بقية تشبيهات هذه القصيدة.
    إذا كان التشبيه في شعر أبي الطيب الحماسي على هذه الصورة من التركيب، فإن هذا التركيب يكون أظهر في الاستعارة. فنزوع الاستعارة في حماسيات المتنبي إلى المبالغة وقيامها على الغلو والغموض أمر أفاض فيه النقاد قديماً وحديثاً ولسنا في حاجة إلى مزيد تأكيده. غير أن الذي يعنينا من كل ذلك هو تحوّل الاستعارة عند أبي الطيب إلى وسيلة لتشكيل العالم، وكأن المتنبي وقد عجز عن تغيير العالم في الواقع قد انبرى يبدع في شعره عالَمَه الخاص الذي أعاد فيه للغة بكارتها الأولى وهو يؤسس سلطته في الواقع من خلال الكلمات.
    خاتمــــة:لئن ردّد أبو الطيب في شعره الحماسي معظم معاني الحماسة التي تداولها الشعراء قبله، فإنه قد تجاوز مفهوم القبيلة الذي قامت عليه الحماسة الجاهلية ليلوّن حماسياته في أحيان كثيرة ببعد ديني ربط بين الحرب والجهاد، كما عمد إلى إخراج هذه المعاني إخراجاً جديداً من خلال اشتغاله على الإيقاع والصورة الشعرية خاصة. هذا الإخراج الجديد لمعاني الحماسة هو الذي وهب حماسياته الانتشار والخلود وجعل المتنبي من أبرز شعراء الحماسة في الأدب العربي .

  • مواضيع ذات صلة